طيور الرغبة لـ محمد الحجيري.. الكتابة إلحاد والرغبة أشد فتكًا من الاستبداد

كاتب وحيد لأمه، والده مصاب بالزهايمر، حياته سلسلة من الانكسارات. حين كان يضع لمساته الأخيرة على روايته الأولى، سمع أزيز الرصاص ودويَّ القذائف من منزله الكائن في منطقة الحمرا ببيروت في ذلك اليوم من أيار 2008، حذف نصه عن شاشة الكومبيوتر، فمات بِكّره قبل أن يرى النور، "لأن الحرب قادرة على تغيير المزاج وقتل الأفكار"، جلس أمام التلفاز يتخيَّل دخول المسلَّحين إلى شقته، تعذيبه، التنكيل به، رميه بالرصاص، إلقاء جثته، حيث "الأجساد المهشَّمة تتشابه في التشوهات". في ليلة واحدة أصبحت منطقة الحمرا كوجه إنسان تلقى لكمة على عينيه، أضاع الشارع بوصلته، مدرعات الجيش قطعت الطرق المؤدية إلى قصر قريطم، ازدادت الشعارات الحزبية على الجدران. غلاة البنادق أبدعوا في صناعة الخوف.

ومن ثالوث العزلة، الحرب والموت، تتدفق ذاكرة محمد الحجيري في روايته الأولى "طيور الرغبة"[1] لتكتب سيرته في رحلته الشاقة من مسقط رأسه "عرش إيل" إلى بيروت، ومن مراهق فقير يهوى المطالعة، ويحلم بالانضمام إلى صفوف اليسار، إلى كاتب أربعيني منطوي على نفسه، يكره كل الأحزاب والأيديولوجيات، ويجالس عالمًا افتراضيًا على الإنترنت. كاتب الكتابة عنده ليست صلاة -كما يقول كافكا- هي: إلحاد، احتلال وشكل من أشكال التعذيب، الكتابة جعلته يعيش في العالم السفلي، ومذ أضحت مهنته أُصيب بمائة وسواس، وحين بدأ روايته كان وسواسه دور النشر: "كيف سأنشر رواية، ولجان القراءة فيها تصاب بالهلع من كلمة (عانة)" (ص7). وفي الواقع إن أكثر ما يلفت الانتباه في كتابته جرأتها العالية، فهو يسمي الأمور بأسمائها دون مواربة، مستخدمًا كل ما يُوصف بأنه يخدش الحياء العام، كأنه في مواجهة حامية للدفاع عن حرية التعبير والرأي.

هل هي سيرة الحجيري بالفعل؟ أم أنه أراد أن يوحي لقارئه بذلك، عبر استخدام ضمير الأنا، وتماهي السارد ببطل الرواية؟ لا نعرف الراوي، كي نجيب. لكن المؤكد أن الأحداث العامة حقيقية، وكذلك الشخصيات، وهي من نتاج الذاكرة الشخصية والجمعية على حد السواء، ذاكرة يفردها المؤلف في فصول، يسميها بأسماء الأماكن والمدن التي عاش فيها: الرميلة، سقي الحدث، شارع جبل العرب، شارع الحمرا، عين الرمانة، عرش إيل (عرسال) وهذا الأخير هو المكان الوحيد الذي لا يحمل اسمه الحقيقي.

المكان هنا ليس مجرد اسم، إنه يحضر بتضاريسه وتاريخه وناسه بوصفه بطل الرواية، مفتاح الحكاية، محرّك الأحداث، وحاضن ذاكرة الجموع التي تتشكل في ظلالها الرؤى الشخصية، الميول والعواطف: "سيارات الأجرة قليلة في مدينة الشمس، في السوق، الأرض يكتنفها السواد وبقايا الخضر والمياه المبتذلة، نساء يتجولن بتشادورات قاتمة، ووجوه خالية من الإغواء والتبرج، قيل أنهن يتقاضيّن مئة دولار على هذا اللباس من حزب الله، شبح الخميني يطل من فوق رأسي، المانيكان فتاة موضة ولم تكن مشودرة، رائحة الصفيحة البعلبكية في كل مكان، باعة اللحم البلدي يعلقون البقدونس في مؤخرات الحملان والنعاج... لم أحب أزقة بعلبك، ولا قلعتها الرومانية، شممتُ منها رائحة الموت والاستعباد" (ص31).

المكان هو الرحم الذي تستيقظ فيه الذاكرة، وتتخلّق الحكايات، حينًا عبر المشاهدات، وأخرى من خلال التداعي: من خلدة إلى صيدا فالرميلة تقطع أوصال الطريق حواجز الجيش السوري، "عناصر من ذوي القسمات القاسية، يقفون داخل دشمة كالحة، وزعوا صور حافظ الأسد على الزوايا، وطرشوا البراميل بعلم البعث والعلم السوري، وكتبوا على الجدران إلى الأبد". وحين تحاول الذاكرة أن تفسِّر الخوف الذي يبعثه المشهد، تستدعي حكاية جديدة: "لا يحضر شبح الجيش السوري في ذاكرتي لأنه كان يسيطر على لبنان، بل لأني تلقيت صفعة على خدي الأيسر من المساعد جميل". ولأن سمعة المخابرات السورية في عرش إيل مرعبة "فبمجرد أن يدخل الشاب في فرع المخابرات، سيخرج مهانًا إلى الأبد أو معطوبًا" (ص38).

تتناسل الحكايات من بعضها البعض، متجاوزة تسلسل الأزمنة والأمكنة، غير أن لكل حكاية على حده، حبكتها المتسلسلة وشخوصها المستقلين، ذروتها ونهايتها التي غالبًا ما تقوم على التأمل في الدلالات، حكاية بعد الأخرى، كأنها شهرزاد، لكن ليس "ألف ليلة وليلة"، بل "ألف حرب وحرب"، حروب بين اليمين واليسار، بين الأديان، ضد إسرائيل، في المخيمات الفلسطينية. مليشيات من كل الأحزاب والطوائف تصنع المجازر، تزرع الرعب والخراب في الأمكنة، ولا تنتهي قصص القتل المجاني "طالما أن السلاح متوفر في المنازل والمستودعات" (ص8).

الكاتب نفسه تزامنتْ ولادته مع اندلاع الحرب الأهلية في شوارع بيروت وضواحيها، وهو يتساءل: "لماذا يحبون الحرب، لماذا يطلقون الرصاص، ومن أجل ماذا؟ لا أعرف، مرت الحرب الطويلة كلها، ولم نعرف، وقُتل مئة وخمسون ألف شخص، لا نعرف من أجل ماذا؟ وهناك عشرة ألف مخطوف ومفقود، لا نعرف أين هم؟". "الحرب شريط صور تلتصق بيومياتنا كأنها السرطان... أمي لم تشارك في الحرب، لكن الحرب احتلت مناماتها... رأت الشجرة مزينة بالوجوه البشرية، بدل الأوراق، رأت الدم يسيل من الغصون... رأت الأشجار ترقص فوق الجثث المثقوبة بالرصاص"، ومع كل حرب تزداد صور الشهداء والنصب المقدسة (ص12-14). ولا يجد الحجيري تفسيرًا لمعنى الشهادة، سوى أن المرء يُقتل مقابل لقب: لماذا يقدسون الشهادة "الشهادة نوع من إدانة للوجود البشري، إشارة إلى عدم توفر السلام".

يفتتح المؤلف فصول روايته باقتباسات جميلة على شاكلة: "كل شيء محض استعارة" لـ غوته، أو "الإنسان رب حين يحلم، وشحاذ حين يفكر" لـ هيلدرين، وحين يصوغ حكاياه يجيد خلط أوراقه الشخصية بذاكرة المكان وذاكرة الكتب أيضًا، يعتمد لغة متعددة المستويات تجاري الأحداث والشخصيات التي تتخلق أثناء السرد، ويُدخل عبارات وحوارات مقتضبة باللهجة المحكية، إن لزم الأمر، فهو حين يتأمل رحلته من القاع إلى الذروة، يكتب: "فكرتُ في الرحيل بحثًا عن معنى الحياة، ووصلتُ إلى السأم"، بينما وهو في سيارة الأجرة، بعد أن يرى حواجز الجيش، يسمع المرأة الخمسينية في المقعد الأمامي تقول: "رح نقضي حياتنا في الملاجئ، ولادي خلقوا بالملاجئ" (ص34).

المتن الحكائي غني بالتفاصيل من كل نوع وصوب، يجمعها المؤلف بإمعان، يضعها في سياق، لا يلبث أن يقطعه بالتأملات، ثم يعود ثانية إليه: من غير حقيبة، وبثياب بالية، وحذاء رياضي صيني، ومن دون أن يخبر أحد غادر "عرش إيل" إلى الرميلة، وهناك أول ما شاهده نساء البكيني على الشاطئ الرملي، حيث بدأ مشوار التلصص على العري والرغبة الوحش "الآن أكتبُ عن تلك اللحظة في خضم ما يُسمى بالربيع العربي، ينتابني شعور أن أكبر جدار في وجه الثورات هو غشاء البكارة، هو الوهم الذي لا نقدر أن نتخطاه منذ أبصرت عيوننا نور الشمس، منذ خرجنا من الطين ونحن نبني في هذا الجدار، وجاءت الأديان العتيدة لتزيد من ارتفاعه وعذابات البشرية" (ص41).

التفاصيل زاد المؤلف، وسيلته الأساس لبناء عوالم ومناخات متباينة والعبور فيما بينها: في الرملية انضم إلى الثكنة التي حررها الشيوعيون من مليشيا "القوات اللبنانية"، ووجد نفسه مراهقًا لم ينبت شاربه بعد، لا يعرف السلاح، ولا يعرف أن يطلق النار، لكنه يحمل الكلاشين، ويحرس الخواء "وعقارب الساعة ثقيلة كما النعاس"، وقبل أن تقصف الطائرات السورية قصر بعبدا بأسابيع، ويلجأ ميشيل عون إلى السفارة الفرنسية عام 1990، قبل ذلك ألقى سلاحه، وعاد إلى عرش إيل ليكمل دراسته.

"تهاوى اليسار اللبناني، وصار اليساريون مجرد حكايات" ملأت حيزًا من صفحات الرواية: خليل جوزيف فريجي الشيوعي المسيحي، سافر إلى باكستان، أَسلم وصار إمام مسجد في بيروت، أبو سلمى مسؤول التدريب العسكري في الرميلة، انضم إلى حزب الله وصار مسؤولًا في الضاحية الجنوبية، الياس أبو عتمة بقي يساريًا، لكنه كان يشتم الشيوعية، بعد أن تخلت عن الشهداء وأُسرهم، كأنهم ماتوا في حوادث سير (ص77-78).

موضوع الاغتيالات السياسية هو الآخر وجد محلَّه في تضاعيف الحكاية، جاء مع شخصية ياسر أبو عمار (حفيد حسين مروة) الذي لم يكن يريد أكثر من أن يصبح عازف غيتار محترف في فرقة موسيقية في بيروت، لكن رصاصة القناص أصابته وهو يقطع الشارع، وأحدثت فجوة في رأسه، وشللًا في أصابع يده، الفجوة في رأسه هي: "مرآة لفجوات هذا البلد المشظى، أما اغتيال جده العجوز (حسين مرة) فهو العار الأبدي الذي اقترفه حرّاس المقدَّسات". الفجوة كانت دفتر كُتب عليه أسماء عشرات الاغتيالات في لبنان، من مهدي عامل إلى ميشال سورا، ومن كمال عدوان إلى سمير القصير (ص114).

حتى الرغبة في هذه الرواية تتقمص شكل الحرب مع الذات، إذ تتحرك في مخيلة الشاب الفقير بفعل صور العالم الخارجي، لكن بلوغها يحتاج إلى شريك، وفي الطريق العاثر للبحث عن النصف الآخر، يصبح النداء "أشد فتكًا من الاستبداد"، ومع مرور الزمن ينضج الشاب، تتحسن ظروف معيشته في بيروت، وسوف يدخل التجربة مع نساء المواخير، ومع نساء عابرات التقى بهن في مقاهي شارع الحمرا، لكنه لن يعرف الحب حتى يصادف زليخة، الفتاة التي جاءت من بلدته "عرش إيل"، و"لم تكن مثل ملكات الجمال، لكنها كانت فتنة خاصة"، زليخا التي أحبت رجلًا آخر وتزوجته، وظل هو أسير الجدران، تراوده في الحلم واليقظة، ويشتاق إلى رائحتها، كلما خطرتْ عتبات الذاكرة[2].

تهامة الجندي



[1] الحجيري محمد (2013) طيور الرغبة، رواية في 230 صفحة. الدوحة، بيروت، قناطر الشرق.

[2]  صحيفة المستقبل، ملحق "نوافذ" 28 نيسان 2013.

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟

أليكسي نفالني.. وفاة صادمة في السجن وليست مُفاجِئة