حامل الوردة الأرجوانية لـ أنطوان الدّويهي.. سجن من المساومات يصنعه الاستبداد


كاتب غارق في تأملاته آخر الليل، تعتقله قوى الأمن من بيته، وتقتاده إلى غرفة ضيقة في سجن "ميناء الحصن"، حيث يقبع وحيدًا لعدة شهور، يقابل صورة الطاغية، ويتساءل في سرِّه عن مسوِّغات اعتقاله الغامضة، فهو الرجل الصامت، الانعزالي والحذر دومًا، الذي يكتب في شؤون الثقافة، والذي قضى قرابة عشرين عامًا متنقلًا بين المدن الأوروبية، معجبًا بجمال الطبيعة وأنماط العيش، ولم يقرب السياسة في يوم من الأيام. ولا تكون رواية "حامل الوردة الأرجوانية"[1] إلا تفسيرًا لأسباب هذا التعسّف، الذي ترتسم من خلاله صورة معمَّمة لواقع الاستبداد الشرقي برموزه المجرَّدة والمطلقة: الضحايا والجلاد.

ويلجأ المؤلف أنطوان الدّويهي إلى صيغة السيرة الذاتية لفرد تفاصيل المتن الحكائي، يتماهى بشخص بطل الرواية (الكاتب)، ويروي قصته بضمير المتكلم، لإيهام القارئ أن ما يحدث حقيقة وقعت بالفعل، وإمعانًا في لعبة الوهم، يبدأ روايته بالتنويه إلى أنه لا يدري ماذا يسمي الأوراق التي ضمَّنها قصة اعتقاله الغريبة، والتي سيودعها حبيبته رانيا لدى زيارتها المقبلة له، وينهي الفصل الأخير بوصيته لها: قطعي لي يا رانيا وعدًا بأنّكِ لن تفتحي هذا المغلَّف... ضعيه في خزانة ائتمان في أوروبا لا يصل إليها أحد سواكِ، افتحي المغلَّف واقرئي أوراقه وانشريها في كتاب، في حالة واحدة، إذا مات الطاغية وانهار نظامه، سواء أكنتُ أنا حيًا أم لا"، وصدور الرواية بالتزامن مع مجريات الربيع العربي، إشارة ضمنية من الدّويهي إلى أن زمن الطغاة آيل إلى الانهيار.

يتخذ مبنى الرواية شكل فصول مرقَّمة، غالبًا ما تكون قصيرة، وفيها تنسكب ذاكرة الكاتب عبر تداعيات الأسئلة التي يضعها بحثًا عن أسباب دخوله المعتقل، دونما التزام بالتسلسل الزمني للأحداث، وتقنية التقديم والتأخير التي تسود صياغة المبنى، تتيح للراوي حرية الحركة في فترة زمنية تطاول جلَّ عمره، ومساحة جغرافية تمتد بين لبنان وفرنسا، حيث نتعرف على ظروف نشأته وشبابه في لبنان، خصوصياته واهتماماته، هجرته  إلى باريس ورحلاته في أوروبا، أفكاره ومقالاته، النساء اللاتي أحب وسجانيه. نتعرف إلى هذه الشبكة من الظروف والعلاقات، من غير أن نعرف اسم الكاتب أو اسم الطاغية، بينما تتقدم باقي الشخصيات بأسمائها الأولى.

أُمه البالغة من العمر الرابعة والثمانين التي تمتلك موهبة الكتابة والغناء، والتي تريد الاعتصام في ساحة الضيعة والإضراب عن الطعام إلى أن تتضح أسباب اعتقاله. آنا، حبيبته الفرنسية التي انفصلت عنه بسبب رفضه أن تنجب منه طفلًا، ولو بصورة غير شرعية. رانيا، حبيبته المتزوجة التي تزوره في السجن مساء كل أربعاء، وتحكي له عن حوادث القتل والخطف التي تحدث في البلدة دون معرفة الجناة أو التغاضي عنهم. ساره، ابنة ضيعته التي كانت تحبه في شبابه، وباتت تزوره في منامات السجن حاملة خنجرها كي تقّتص منه. الرائدة هناء التي تولَّت التحقيق معه، وكانت قبل عشرة أعوام قد التقته في مقهى "لوديبار" بفرنسا، وهي بصحبة الأنطاكي، المعارض السوري الغامض. المقدَّم سالم الذي عرض عليه: إما الانتقال إلى زنزانة انفرادية في سجن بلعة، أو إطلاق سراحه واستلام وظيفة مرموقة في الدولة، لقاء تأليف كتاب عن تاريخ الطاغية وعائلته.

وفي سياق السرد يفترض الكاتب أن سبب سجنه هو رفضه الاستمرار في الكتابة  لمجلة "مرآة الشرق" التي يموّلها الطاغية، رغم كل الإغراءات المادية التي عُرضت عليه، وامتناعه حتى عن قبض استكتابات أربع تحقيقات نشرها فيها سابقًا. أما السبب المباشر الذي واجهته به الرائدة هناء، فهو مجموعة رسائل كتبها بالفرنسية لآنا موقعة باسم "حامل الوردة الأرجوانية"، تكشف عشقه للحرية بكل أبعادها الخاصة والعامة، خوفه الفطري والمزمن من الاستبداد والاعتقال، وهذا جرم خطير، يستدعي اتهامه بالعمالة لصالح الدول الأجنبية، والتآمر على الوطن ونظام الحكم، وحين قَبِل الكاتب بالمساومة، لم يكن ينوي في قرارة نفسه تأليف الكتاب، بل كسب الوقت وتأجيل سجنه المؤبد لحين.

سجن من المساومات لا مفر منه، ينسجه الطغيان بإتقان حول الجميع، وفي يوميات السجن تتداخل وقائع النهار بكوابيس الليل، تتقاطع الأمكنة والأزمنة، ويعقد الكاتب المقارنات بين المجتمع الغربي الذي يقدِّس الحرية، وبين المجتمع الشرقي الذي يفتقد لأبسط شروطها. يظهر ولعه بالفن التشكيلي، حين يصف البورتريهات والمنحوتات، أو حين يتوقف عند جدارية بينوزّو غوزّولي. يبدي قلقه العميق إزاء تراجع الحريات العامة في لبنان، الخراب الذي حلَّ بالطبيعة الجميلة، والتشويه الذي ضرب الأمكنة والمباني، بعد عودته من المهجر. يروي تجاربه، ويصف مشاهداته وتأملاته بلغة سردية مباشرة، تعكس بالفعل حال وهواجس سجين يكتب بالسر، على عجل، تحت وطأة الخوف من أن تنكشف أوراقه، وتضيع في غياهب الظلام[2].



[1] الدّويهي أنطوان (2013)، حامل الوردة الأرجوانية، رواية في 190 صفحة. بيروت-لبنان، الدار العربية للعلوم ناشرون.

[2] نُشر في صحيفة المستقبل،  ملحق "نوافذ" عام 2013

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟

أليكسي نفالني.. وفاة صادمة في السجن وليست مُفاجِئة