ليمبو بيروت لـ هلال شومان.. رواية التقلبات المدهشة

في الحروب والنزاعات المسلَّحة تقف عقارب الزمن، مثل لعنة لا تبرح المكان، يتراجع الماضي، يغيب المستقبل، وتبقى اللحظة الراهنة عالقة في الفراغ. تستيقظ الذاكرة الشخصية، تصير رحمًا، قلعة، تدافع عن بقايا حياة، يتهددها عنف أعمى، يقّنصها الرصاص. يصير البشر حكايات تملأ صفحات الكتب وقنوات الاتصال، حكايات: السجن، القتل، الخطف، الاغتصاب، الخوف، الهجرة، تجار الدماء. كلنا يصير رواية يريد أن يودعها في ركن آمن، قبل أن تلاقيه مصادفة الموت في شارع فقد وجهه، أو تحت سقف ينهار. وحده السرد ينتعش، ما عداه يضيع في البرزخ الفاصل بين عالمين: الأول يتلاشى، والآخر لم يُولد بعد.

في البرزخ الفاصل بين عالمين، برزخ التيه والذكريات، حين نرتجل اللحظة والقرار، محكومين بغريزة البقاء، في هذه المساحة الغائمة الحدود، القائمة على الترقُّب والانتظار، يكتب هلال شومان روايته الثالثة "ليمبو بيروت"[1]، يبني شخصيات لا تعرف بعضها البعض، تروي جزءًا من حكايتها، تترك أسئلتها، وتغادر بلا نهايات. الرابط الوحيد فيما بينها هو الحيِّز الجغرافي، وتداعيات الحدث العام على ذواتها في أيار 2008، شخصيات تتقاطع دروبها في الختام بمحض المصادفة، عند الفجر، وأمام مشهد الموت.

خمسة عناوين، مختلفة ومستقلة بذاتها، هي ذاكرة الحرب، وفصول الرواية الأم: "الأمير الصغير"، "الليمبو"، "شبكة سلوى"، "الأحداث" و"للحظة الفارقة". ولكل عنوان حبكته، شخصياته الرئيسية والثانوية، لحظته الانقلابية، ذروته، مذاقه، لغزه الذي ينحلّ جزئيًا مع نهايات العنوان الأخير، سير ومسارات تخرق المألوف، لا تفصح عن نفسها بسهولة، بل تومض، تشير، تترك الغموض يستدرج متعة الإثارة والتشويق في قلب المتن الحكائي، على الرغم من تراجيديا اللحظة. متعة ليست في مكونات النص فقط، بل في أسلوب تنسيقه وتبويبه، تصوير المشاهد، تعشيق الصفحات بالرسوم، تعشيق الكلمة بالتشكيل.

قصة "الأمير الصغير" يحكيها سارد خارجي، بطلها وليد، رسام مثلي، شخصياتها: أم وليد المتسلِّطة، والده اللطيف، حبيبه ألفرد، وفي تلك "الحرب الصغيرة، المحدودة جدًا، الموضوعية جدًا" (ص30)، سوف يتذكر: "لم يعش الحرب اللبنانية كاملة، يذكر آخرها، يتذكر أنه تغيَّب عن المدرسة كثيرًا... تعرَّف على الشرقية مبهورًا مع رفاقه المراهقين... بعد أشهر من النهاية المعلنة للحرب، أخذه أبوه إلى وسط البلد، مشّاه على الخراب... صوَّره كثيرًا، تصورت العائلة كلها" (ص34) وكانت هذه الصور هي ذاكرته البصرية، مدخله إلى عالم اللوحة، وفي الحرب الصغيرة سوف تجتاحه حمَّى الرسم، الجزء العلوي من وجوه كثيرة تشبه وجه الحبيب النائم، وعند الفجر سوف يجمعها، ويمشي في الشوارع الخالية، يصل شارع الحمرا، يحاول لصق رسومه على جدار، يتصادف ذلك مع مرور شاب يُنزِّه كلبه، يساعده في اللصق، فجأة يهرب الكلب وصاحبه، يلتفت وليد، يرى رجلًا بلباس داكن، يصوِّب سلاحه نحو رأسه، ويسأله عما يفعله بالقرب من مركز الحزب.

 قصة "الليمبو" مناخ آخر، عالم يصنعه الصوت الداخلي، السؤال عن إمكانية أن نكون أو لا نكون، روائي يعزل نفسه منذ زمن بعيد بحثًا عن نص يكتبه، ولا يجد سوى مفرداته وجمله المبعثرة، فيما زوجته اليابانية تاكارا تخوض الحياة، تضع لمستها البديعة على ديكورات المنازل. ينقلها من لندن إلى بيروت، علَّه يجد نصه الضائع، لكنه يخفق كعادته، وتنجح هي. تشرح له: "الأشياء حولنا محايدة، نحن من نرفعها إلى مراتب عليا، أو نهوي بها إلى تحت، حتى التقزز، هو تعريفنا، حتى الأخلاق، هي تعريفنا، الخطأ، الصواب... نحن من ننهمك بتعريف غيرنا، من دون أن يعني ذلك التعرُّف على من عرَّفناه، نحن نعقد الأشياء ونبسط العلاقات، نقوم تمامًا بعكس الحقيقة". تقول له: "أنت تروي لتُمتع، لكن هل الحياة ممتعة؟." (ص45)، أما هو فحين ينظر إلى صورته الفورية، يرى نفسه: "غريبًا، كتفان متعبان، وجه عرقان، رجلان مضّمومتان وابتسامة، مهلًا هل هذه ابتسامة؟ تذكرتُ أني لا أستطيع أن أبكي... وها أنا الآن لا أحظى حتى بابتسامة، أين الخطأ؟ ما الذي أَستمرُ بتفويته؟" (ص63)، ويكتشف الروائي في خضم السؤال، أنه لا يملك التجربة الكافية، لا يملك رواية حتى يرويها للآخرين.

حين تشب الاشتباكات، تهجره تاكارا، تسافر إلى موطنها، لا يأبه، يبدأ الكتابة عاريًا، ويواصل حتى الفجر، يلبس، يقود سيارته إلى الحمرا مسيَّرًا بدافع خفي، يظهر أمامه الرجل مُشهرًا سلاحه باتجاه الشاب، يصّدمه دون تردد، ويغادر إلى زوجته في اليابان، يصنع طفله القادم. حدث ذلك كله بسرعة، بخفة فاجأته، ثم جاء "ثقل الأسئلة، ليمحو خفة الحدث"، لكن القارئ لن يشعر بالثقل المفترض، القصة تنتهي قبل طرح الأسئلة واستقبال التبعات، المهم أن الروائي بقتله الرجل المسلَّح، امتلك مفاتيح روايته الخاصة.

هكذا تعبر البرزخ باقي الشخصيات، حاملة ملامحها، أحلامها وكوابيسها، ميولها وعواطفها، محطات تألقها وإخفاقها، تعبر دون أن ترهق القارئ بالمآسي التي عايشتها، بل تغويه بطباعها وأمزجتها الغريبة، تبهره بقدرتها على التأقلم والبقاء: سلوى التي تلد في ذاك الفجر الدامي، تهوى حلّ الأحجيات في زمن الحرب، زوجها اللغز، ألفرد عشيق وليد في القصة الأولى، "تتوق أن يفاجئها بجنس مختلف، لكنه يستمر مستقرًا عند حافة الرقة".

حسن المقاتل، لبس البدلة الداكنة، كي يحمي شقيقه الصغير رامي، وشمَ ساعده بعنوان ورقم هاتف بائعة الهوى الفرنسية صوفي، كان يمشي ويقارن بين الحربين: "في الماضية، كانت هناك أسباب صلبة لكثيرين شاركوا فيها... الآن الأسباب مائعة"، في الأولى كان داخل الحرب، يقتل ولا يخطف، ثم أصبحت الحرب في داخله، لا يريد أن يقتل أحدًا، ولولا شكوك الرفاق في أمره، لما رفع السلاح، رفعه ثانية، كي يحمي نفسه، كان يتفادى الأسوأ بالسيء. رامي مُقعد في هامبورغ، يساكن صوفي، بعد أن أوهمته بالحب تلبية لرغبة الشقيق الأكبر، يحلم دومًا بالمشي والطيران، يرى بيروت "تغرق، ترفع من تحتها طبقتها المطمورة، نسختها الأقدم".

طبيب متدرب، يوقظه الحنين في زمن الحرب، يكتب رسالة اعتذار لمن أحبها وفشل بإبقائها إلى جانبه، يبرر فشله، بأنه لم يستطع أن يبدي لها ما يكفي من الحب، يشرح لها، كيف شاءت المصادفات، أن يقتحم حياة الآخرين عند الرابعة من الفجر، حين ساعد في لصق الرسوم، كيف كان شاهدًا على مقتل المسلَّح، وهرب الرسام والقاتل، كيف أبلغ عن الحادث، وهرع إلى المشفى لاستقبال الجثة، كيف التقى سلوى في غرفة الطوارئ، تعاني آلام المخاض. 

الشخصيات تصحب القارئ بود إلى عوالمها الخفية، تدخله أسرارها، مواضع قوتها وهشاشتها، تجاربها في معترك الحياة، تنقله من حال إلى حال، تقوده في أحياء بيروت وشوارعها، تجعله يرى المدينة بعيونها،  الراوي يشبهها بـ: "واد عميق لا نتبيّنه إلا أحيانًا، نعيش فيه كل يوم، نذهب إليه كل يوم، ولحظة نتبين أننا نعيش في واد، لا نعود نعرف كيف نصل إليه، نصير فوق، على الحافة، هو تحتنا تمامًا، وبعيد تمامًا" (ص45). حسن يرصد متغيرات المكان: "أخذت أبكي وأنا أنظر إلى الشبابيك البنيّة تُقلع، يودون تغيير مظهر البناية وطلائها بلون جديد، ووضع الستائر المقلَّمة البشعة... والستائر موضة تأكل شرفات بيروت". يعلق: "أحيانًا لا أفهم هذا البلد، كيف ينتقل من النقيض للنقيض، كيف يخلقون تلك الأشياء المنظَّمة، داخل الأشياء غير المنظَّمة، داخل الأشياء المنظَّمة... متاهة، كيف أن كل شيء يمشي ويتأقلم ويتطوّر ويعيش". أما الطبيب فقد انتبه إلى جمال بيروت الأكيد، حين كان وحيدًا، يلسعه الفراق،  يهزّه الحنين. 

وعلى الرغم من أن أحداث الرواية تقع في ساحة النزاع، غير أن الشخصيات لا تأبه بالمعركة، لا تذكر شيئًا عن أسباب القتال، لا تبدي انحيازها لأي من الأطراف المتصارعة، لا تقف عند أعداد القتلى ومشاهد الخراب، كأنها تقول: إن بقاءها على هذه الأرض، أهم بما لا يُقاس من ذرائع الحرب وأدواتها، أهم من موازين القوة والضعف، من معادلات الربح والخسارة، ومن أوهام النصر المكلّل بالغار. تقول: هي الأهم والأقوى، لأنها البشر، الحياة بألوانها العذبة وتقلباتها المدهشة، لأنها الحكاية التي سوف تبقى، بعد أن تنتهي الحرب.. كل الحروب[2].

 

تهامة الجندي



[1] شومان هلال (2013) ليمبو بيروت. رواية في 232 صفحة. بيروت-لبنان، دار التنوير.

[2] صحيفة المستقبل، ملحق "نوافذ" الأحد 16 حزيران 2013. العدد 4718. 

تعليقات

الأكثر قراءة

رواية التّماسيح لـ يوسف رخَا.. رؤية المستقبل بالنظر إلى تجارب الماضي

زيلينسكي: اسألوا أنفسكم لماذا لا يزال بوتين قادرًا على الاستمرار في الحرب؟

أليكسي نفالني.. وفاة صادمة في السجن وليست مُفاجِئة